مستجدات

الهادي بنعيسى الشيخ الكامل (1467-1526م)

[ALLNEWS]28 سبتمبر 2023
الهادي بنعيسى الشيخ الكامل (1467-1526م)

شيح علم وتربية وتصوف، مأذون له من أقطاب أعلام الطريقة في عصره

قياسا على ثنائية الأضرحة والزوايا، يمكن التأكيد على أن ظاهرة انتشارها بمكناس والنواحي في أحقاب زمنية متواصلة، تخضع لعدة مسارات لها خصوصياتها، ومكوناتها الثقافية والتاريخية والدينية، ووظائفها الاجتماعية والسياسية، في ارتباط وثيق بسؤال التاريخ والهوية والمرجع والتأسيس والانتشار، وسياقاته التي برزت من أجلها هاته الأضرحة والزوايا (وبشيء من الاختصار) كفاعل أساسي في توجيه الأحداث وتأطير المجتمع، وكفضاء لاستقبال مختلف الوافدين من العديد من المناطق قصد التعبد والتصوف، وتحصيل العلم، والإيواء.

وفي هذا المجال اختلفت المصادر والمراجع والسير في إثراء هذه المقاربات التي أقرت بحركية المجتمع المغربي على امتداد تنوع هذه الأضرحة والزوايا. وفي هذا السياق يمكن أن يندرج موضوع ضريح أو زاوية الهادي بن عيسى الشيخ الكامل.

هذا الضريح وحسب ما جاء في مرجع إتحاف أعلام الناس بجمال حاضرة مكناس للمرحوم عبد الرحمان بن زيدان .هو من تأسيسات سيدي محمد بن عبد الله بن السلطان المولى إسماعيل، كان قد دفن خارج الباب المعروف بباب السيبة، أحد أبواب العاصمة الإسماعيلية آنذاك ، يقال إن هذا الضريح بناه سيدي محمد بن عبد الله من أنقاض ما هدمه من الدار الكبرى دار الخلافة الإسماعيلية، وكان تأسيسه له على الأرجح عام 1190، يدل على ذلك ما هو منقوش داخل مزارة الضريح ما كلماته:

أشاد أميـر المؤمنيــن محمــد *** علاه فلازال العلي يؤيـده

وجاء على أيدي ابن واعزيز طالعا *** يؤيده (نصر وفتح وأسعده)

له قبة مزخرفة تظهر للناظر من بعيد، وبها نقوش وتخارم، وقد جعلت له صومعة، وإيزاء القبر مسجد للصلاة، ويتصل بالضريح ساحة كبيرة ومباج عن يمين الداخل للضريح، وبالساحة باب يفضي إلى ضريح ابن الروائين المشهور المتوفى آخر العشرة السادسة من القرن العاشر. وسيدي مَحمد هذا من رجال القرن العاشر، وقد ترجم له في الدوحة وفي الممتع، وفي المرآة، ولفظ صاحب الدوحة:” هو أبو عبد الله مَحمد بن عيسى الفهدي كان من فحول المشاييخ الداعين إلى حضرة الحق”. أخذ عن الشيخ أبي العباس الحارثي، توفي في العشرة الرابعة، وقبره مزارة مشهورة أما لفظ الممتنع قال: “أما سيدي محمد الحارثي فمن أصحابه الشيخ أبو عبد الله مَحمد بن عيسى الكبير الفهدي السفياني الأصل ثم المختاري نزيل مكناسة الولي الكبير الجليل الشهير شيخ الطائفة العيساوية بالمغرب”.

ولفظ المرآة:” وأما الشيخ أبو الروائن، فعن الشيخ أبي عبد الله مَحمد بن عيسى الكبير الفهدي السفياني الأصل ثم المختاري، توفي في أول العشرة الرابعة من المئة العاشرة.

وعن نسبه يجيب ابو مهدي الفجيجي، تلميذ الشيخ فيقول: “أما شيخنا فهو سيدي مَحمد بن عيسى بن عامر بن عمر بن حريز بن عبد المومن بن عيسى المكنى بأبي السباع”. وهناك من قال إنه فهدي مختاري، وأثبت هذه الحقيقة العلامة عبد العظيم الزموري في مخطوطه الموجود بالخزانة العامة، حيث قال عن قبيلة بني حسن، فرقة لها مختار هو من عرب فريش، وفيهم دوار أولاد فهد فيهم شرفاء، من أبناء أبي السباع، فالرجل إذن سباعي ولد ونشأ بفهد.

والخلاصة كما جاء في مؤ لف علال العساوي آل الشيخ الكامل، أن انتساب الشيخ سيدي مَحمد بن عيسى إلى السلالة النبوية الشريفة ثابت باعتراف من جاء بعد معاصريه كالغزال، والزبادي، والفقيه الزرهوني، وما يؤكد ذلك بعض الظهائر المولية الشريفة ،التي لازالت يحتفظ بها حفدته، وفي مقدمتها ظهير سيدي محمد بن عبد الله الذي له دلالة خاصة في موضوع إثبات النسب ،وآخرها ظهير سيدي محمد بن يوسف.

أما تسميته بالكامل، عنها اختلف الرواة ،لكن الأرجح هو أن مجموعة من العلماء حضروا ليقيّموا ثقافة وعلم الشيخ الهادي بن عيسى. وكان بينهم الفقيه البصري خطيب مكناس، ولما وقف على جدارة الشيخ ومؤهلاته الدينية والعلمية، قام واقفا وهو يصيح: “والله هذا شيخ كامل”. ومنهم من قال أن أسباب تسمية الشيخ هو صاحبها، حيث جاء في مستهل قصيدته المشهورة:

أنا فحل كامل وشيخ على ظهــــر

محمد ظاهر في كل قطر ابن عيسى شربت البحر

أما لقب الفحل، فهو لقب يعرفه به في ليبيا، و عند أهل التصوف فهو يعرف بالكبريت الأحمر، وأخبر عن نفسه أنه لقب عند أهل الله بالهادي بن عيسى، والملاحظ أن لقب الشيخ الكامل هو الغالب والمتداول إلى يومنا هذا.

ولادته: عاش في القرن الثامن الهجري، حيث ولد سنة (872هـ-1467م) وتوفي سنة 1526م. عن تقييد موجود بالخزانة الصديقية الفاسية، وذكر نفس المصادر، أن أبوه هو سيدي عيسى بن عمرو بن عمر شهيد الضويحل، والضويحل منطقة توجد بالساقية الحمراء، رحل الأب  إلى قبيلة مختار بسهل الغرب، المعروفة باسم سحيم المختار، حل بهؤلاء لأنهم ينحدرون من أصول صحراوية، تزوج مريم الفهدية، وأنجبت له 3 أبناء الهادي بنعيسى دفين مكناس، وامحمد الشعاب ضريحه بالغرب، وأخوه أحمد سمي على أخيه الذي اختلف الرواة في اسمه، وهو جد قبيلة السباعيين، ويذكر أن الأب كان له سبعة أولاد من زوجة أخرى قبل أن يشد الرحال إلى مكناسة الزيتون. ونشأ الابن مَحمد بن عيسى عند أخواله بني مختار في قبيلة بني حسن (سحيم المختار) عاش محبوبا معظما مهابا حتى أنهم أصبحوا فيما بعد من أكثر أتباعه و شّرفهم بقوله: “أهل سحيم أعز علي من أولاد صلبي”. وظل بينهم إلى أن تزوج السيدة طاهرة من قبائل المختار، أنجبت له عيسى المهدي الذي خلفه،وترك ثلاثة أولاد هم :أحمد الحارثي دفين البراكة، وامحمد بنعيسى الصغير، ولهذا لقب الشيخ الهادي الكبير لتشابه الأسماء، وعبد السلام أبو مديان، الذي لم يخلف وبقي فرعان من أحفاد الشيخ إلى زمننا هذا، وهما أبناء الحارثيين، وأبناء محمد الصغير حسب ما ورد في تركة أولاد المهدي بن عيسى المؤرخة سنة 983هـ والتي كتبت بعد وفاة الشيخ الكامل بحوالي 50 سنة.

تعليمه: كان محمد بن عيسى من حفظة القران الكريم في وقت وجيز. مما جعل له مكانة عند والده ، ومرموقا عند أخواله، الأمر الذي دفع والده ليرحل به للدراسة بجامعة القرويين بفاس،وقد أثبت هذا مؤلف ابتهاج القلوب. وعند دراسته بالقرويين يقول العلامة محمد الزرهوني في الكنوز الربانية: “إن والده ارتحل به إلى فاس بقصد طلب العلم الذي فاز به في أقل مدة زمنية، فرجع إلى قبيلة سفيان أصهاره ،ثم ارتحل إلى مكناسة الزيتون، فتصدر التدريس بالمسجد الأعظم، الذي لا يدرس به آنذاك إلا كبار العلماء”،وقد كتبت على سارية المسجد وهي لا زالت قائمة إلى الآن ما لفظه:”هناك كان الشيخ سيدي محمد بن عيسى يدرس العلم سنة 927هـ”.

واعتبارا لما سبق ذكره باختصار شديد، يمكن القول إن الشيخ كان من العلماء الأفداد، وأن الجانب الصوفي الذي عرف به كان سبب شهرته، وذيوع صيته، وهو ما يظهر مكانته العلمية، وبرز حصافته الفكرية، كما أنه أصبح شيخ تربية مؤذون له من أقطاب التصوف وأعلام الطريقة في عصره، الأمر الذي جعله يلقى نجاحا ويحظى من طرف الخاص والعام بلقب الشيخ الكامل حيث قيل فيه:

وللشيخ آيات إذا لم تكن لـــه

فما هو إلا في ليالي الهوى يسرى

بداية الدعوة إلى الله: انتشرت أخباره في سائر البلاد، والتحق به بمجموعة من الناس من مختلف طبقات الأمة، مما جعل زاويته بدرب الفتيان تضيق بروادها فاشترى أرضا بنى عليها زاويته / الضريح، المعروفة لحد الآن خارج باب السيبة بمكناس،حيث أصبحت ملتقى للعلماء وأهل الصلاح والفضل، وكان إشعاعها الروحي يطفي عليها هالة من التقدير والاحترام من طرف الجميع، وصار الناس يتزاحمون عليه قصد التبرك به والأخذ عنه، وانتشرت طريقته، وصار ذكره في جميع أقطار المغرب والمشرق ،إلى أ ن وصلت الديار المصرية سنة 1132هـ على يد الشيخ منتصر بن حسن الدين، وكان من هذه الزاوية أن تطور بناؤها وتوسعت وكثر روادها، مما أثار تخوف المسؤولين ودفع بالوالي الوطاسي آنذاك إلى أمر الشيخ بمغادرة المدينة في أقرب وقت، وهو ما استجاب له الشيخ، ولما عزم على الرحيل بادر مجموعة من تلاميذه إلى إقناعه بالعدول عن الفكرة، لكنه صمم وقال: “إن طاعة أولياء الأمر واجبة وأن أرض الله واسعة”.

غادر المدينة وما كاد أن يبتعد قليلا وبالضبط وصل مكان يسمى اليوم بسهب سيدي بنعيسى حتى التحق به بعض تلاميذه وأخبروه أن الوالي يطالب بعودته، وحول هذا الرحيل تقول بعض المصادر، إنه كان مدبرا من أصحاب المصالح والحاقدين. ثم عاد إلى حياة التدريس والوعظ والإرشاد، صابر وثابر ولم يخفه تهديد وما ثناه وعيد، ولا أثرت في نفسه مغريات، فشرقت الدعوة وكثر عَدد وعُدد المؤمنين وأنصاره واستقام أمره فأزعج خصومه وتألبوا عليه، فارتدوا منهزمين وتواروا خاسرين.

أصل الطريقة العساوية: كان الشيخ الكامل يتردد باستمرار لزيارة أخواله من الفهديين والتقى بالشيخ أحمد بن عمر الحارثي السفياني شيخ القبيلة، أحد أكبر تلامذة الشيخ محمد بن سليمان الجزولي صاحب دلائل الخيرات، وقد عرف بذلك غير واحد من المؤرخين. وقال الحاضيكي في كتاب الأنيس الجليل: “كان (ض) من فحول المشايخ الداعي إلى حضرة الحق العارف بالله المربي للسالكين” أخذ عن أبي العباس الحارثي شيخ الطريقة الجازولية، ثم أخذ بعده وبإذنه عن الشيخ أبي محمد بن عبد العزيز التباع وألف فيه أحمد المهدي غزال كتابه: “النور الشامل في مناقب فحل الرجال الكامل سيدي الهادي”. وعرف على مدار الأعوام أنه كان يدرب مديريه على تلاوة القرآن الكريم، مع ترديد العديد من الأمداح النبوية التي انتشرت في عصره، ولكن كانت كلمات تلك الأغاني الجماعية دينية مدحية تعتمد على آلات موسيقية بسيطة مثل الدف والطبل والطبيلة  والغيطة وهي آلات صوفية معروفة وقع تطورها عبر العصور حتى كانت تسمى الغيطة بالبند “مصطلح صوفي” التي أدخلها إلى الطريقة العيساوية تلميذ الشيخ الولي المشهور سيدي محمد الشباني دفين طريق عين جمعة (20 كلم عن مكناس)، والطبيلة أضافها تلميذه الشيخ عبد الرحمن التاغي المدفون بحمام الجديد بمكناس.

أسس الطريقة العيساوية: قال عنها الشيخ الكامل نفسه: “طريقتنا لا تدخل في قلب قاسي، ولا في جسم عاصي، ولا في عقل جاهل، ولا تدرك بالقياس، ولا هي خارجة عن الكتاب والسنة، بل هي حكمة عيّة، وموهبة أولية على السنة والنية ومساقة على أثار الأنبياء والأولياء” إلخ.

الوجه الفني للطريقة العيساوية: “عيساوية”: اسم يحيل عند البعض على أجواء غرائبية يختلط فيها الصوفي بالفولكلوري حيث يتمازج الذكر بالنغم، ويلتحم إيقاع الجذبة بنغمات الخضرة، فتنفتح “الطائفة” العيساوية أمام أصناف من المريدين بين راقص مأخوذ، وجاذب مشدود ،هامت روحه في أجواء الحضرة، فتجاوز حدود واقع ليلحق ملكوت هو وحده يعرف كنهه، فتتلوى الأجساد، وترتفع الرؤوس وتنحني وتعلو الصيحات، وتتهاوى الأجساد وتنهض أخرى، ويعلو صوت الغيطة والبندير فنزداد حدة التفاني لدى المريدين داخل دائرة الرقص والجذب، تعتريهم أحوال كل على قدر مشربه، فمنهم المهتز ومنهم من يهتز، ومنهم من يصفق فرحا بمذكوره كحالة أهل التصوف، فترتفع عند الجميع إيقاعات الجذبة تحت دورة الانتشاء.

ويذكر في الكتب والسير أن الطريقة العيساوية غزت العديد من الأقطار، منها الجزائر عن طريق زاوية وزرة بمدينة مدية منذ القرن 16م، ثم انتشر في تونس وليبيا إلى أن وصلت إلى أوربا وبعض أنحاء العالم، وحدها باكستان يوجد بها يوجد بها  نحو40 ألف عيساوي، بعد أن كان بها في عهد الثمانينيات 12 ألف، ثم وصلت إلى جزر المالديف، وليبيا وحدها تتوفر على 5 مئة زاوية عيساوية، وتونس لا تخلو أي قرية أو مدينة من زاوية عيساوية، وبالقدس زاويتان بحي المغاربة، وأخرى هدمت كانت قرب حائط المبكى.

وقد تتوافد على ضريح الشيخ الكامل بمكناس كل سنة من جميع أنحاء المغربي العربي ومن داخل المغرب، إلى أن يتعدى العدد على أقل تقدير حوالي مليون مريد وزائر في فترة ذكرى عيد المولد النبوي الشريف.

الاخبار العاجلة
error: تحذير: المحتوى محمي