الدكتور الجامعي أبو الشتاء
في خضم التحولات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة المغاربية، يعود إلى الواجهة ملف تاريخي شائك ظل لعقود حبيس الذاكرة الجماعية المغربية: الصحراء الشرقية، الممتدة على طول الحدود الشرقية للمملكة، والتي تضم مناطق واسعة من تندوف وبشار وقنادسة وتوات وغيرها. أراضٍ تاريخيًا كانت تابعة للسيادة المغربية، قبل أن تؤول إلى الجزائر بفعل ترتيبات استعمارية تعود لبداية القرن العشرين.
ترجع مطالب المغرب بالصحراء الشرقية إلى وقائع موثقة ومراسلات رسمية تعود لعهد السلطان مولاي الحسن الأول، الذي بسط نفوذه على هذه الأراضي، وعيّن فيها قوادًا وجباة ضرائب باسمه. كما تشير وثائق فرنسية تعود للفترة الاستعمارية إلى اعتراف ضمني بسيادة المخزن المغربي على قبائل ومناطق شرق خط فكيك – تندوف. هذا الواقع تغيّر بعد الاتفاقات الفرنسية الجزائرية التي أعقبت احتلال الجزائر سنة 1830، حيث بدأت باريس ترسم حدودًا إدارية تقطع أوصال النفوذ المغربي في الجنوب الشرقي.

رغم استقلال الجزائر سنة 1962، بقي ملف الحدود المغربية الجزائرية رهينة الإرث الاستعماري. وفي اتفاقية تلمسان سنة 1972، جرى ترسيم الحدود بين البلدين، لكن البرلمان المغربي لم يصادق رسميًا على الاتفاق، معتبرًا أن الأمر لا يطوي مطالب السيادة التاريخية للمملكة على تلك المناطق. كما أن هذه الأراضي لم تكن موضوع تفاوض مباشر مع المغرب خلال مرحلة تصفية الاستعمار، خلافًا لحالة الصحراء المغربية التي حسمها المغرب باسترجاعها في 1975 عبر المسيرة الخضراء.
اليوم، ومع تصاعد التوترات بين الرباط والجزائر، وعودة بعض الأصوات السياسية والمدنية المغربية للمطالبة بإعادة النظر في ملف الصحراء الشرقية، يصبح من المشروع طرح السؤال: هل آن الأوان لفتح هذا الملف على أسس قانونية وتاريخية وسياسية جديدة؟ خصوصًا في ظل تغير موازين القوى الإقليمية والدولية، وتزايد الاعتراف الدولي بمغربية الصحراء الغربية، ما يعيد الثقة للمغرب في استعادة حقوقه التاريخية كاملة.

المغرب، الذي ظل يلتزم بسياسة ضبط النفس تجاه هذا الملف، يدرك أن التقدم نحو حل سلمي يتطلب مسارات دبلوماسية معززة بالحجج التاريخية والقانونية، بعيدًا عن منطق المواجهة. وفي المقابل، فإن الجزائر التي بنت جزءً من خطابها السياسي على دعم نزعات الانفصال، تجد نفسها أمام مرآة مطالب مشروعة قد تحرج سرديتها السياسية في المنطقة.
الصحراء الشرقية ليست مجرد ملف حدودي، بل قضية سيادة وطنية تمس كيان الدولة المغربية وذاكرتها التاريخية. وإعادة فتح هذا الملف لا يعني بالضرورة التصعيد، بل يمكن أن يكون دعوة صريحة إلى تصحيح أخطاء الماضي، وإعادة ترتيب العلاقة بين بلدين جارين على أساس الحق والعدالة والتاريخ.
السيناريوهات المستقبلية: كيف يمكن للمغرب أن يتعامل مع هذا الملف؟ هل يطرحه تدريجيًا عبر المنابر الدولية؟ أم يُبقيه ورقة ضغط استراتيجية مرتبطة بملف الصحراء المغربية الكبرى؟

الأساس التاريخي والقانوني للمطالبة المغربية بالصحراء الشرقية
أولاً: المعطى التاريخي – السيادة المغربية قبل الاستعمار الفرنسي
قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830، كانت الحدود بين المغرب وشرق الصحراء غير مرسّمة بشكل دقيق، لكن النفوذ المغربي كان واضحًا من خلال عدد من المؤشرات والوثائق:
البيعة والولاء السياسي: قبائل مثل أولاد جرير، الزناگة، أولاد دليم، ومناطق توات وتديكلت وتندوف، كانت تبايع سلاطين المغرب وتدين لهم بالطاعة. هذا الولاء كان يعبر عن السيادة وفق المفهوم التقليدي السائد آنذاك.
التعيينات المخزنية: كان المخزن يعين “قوادًا” و”أمغارين” في هذه المناطق، ويفرض الضرائب السنوية (الزكاة والحماية)، مما يدل على ممارسته الفعلية للسلطة.
الرسائل السلطانية والمراسلات الأوروبية: توجد مراسلات تعود للسلطان الحسن الأول، يُخاطب فيها القبائل والقواد في مناطق مثل تندوف وتوات، ويأمرهم بطاعة من ينيبه. هذه الوثائق موجودة في الأرشيفين المغربي والفرنسي.
ثانيًا: التدخل الفرنسي وإعادة تشكيل الخريطة الحدودية
اتفاقيات استعمارية أحادية: فرنسا، بعد أن احتلت الجزائر، بدأت بالتوسع شرقًا وجنوبًا على حساب المغرب. اتفاقية لالة مغنية سنة 1845 حاولت ترسيم الحدود، لكنها لم تشمل الجنوب بشكل دقيق، ما جعل فرنسا تتمدد لاحقًا وتضم مناطق توات وتندوف إلى الجزائر الفرنسية بحكم الأمر الواقع.
رفض مغربي متكرر: المغرب، في أكثر من مناسبة، احتج رسميًا على التوسع الفرنسي شرقًا، لكنه لم يكن حينها في وضع عسكري أو دبلوماسي يسمح له بمواجهة القوة الفرنسية.
ثالثًا: الوضع القانوني بعد استقلال الجزائر
عدم الاعتراف المغربي بالتخلي: بعد استقلال الجزائر في 1962، طالب المغرب بإعادة الصحراء الشرقية، معتمدًا على مذكرات رسمية، أبرزها تلك التي قدّمها الملك الحسن الثاني سنة 1963 للأمم المتحدة وللرئيس الجزائري أحمد بن بلة، يوضح فيها أن هذه الأراضي تم اقتطاعها بغير وجه حق.
اتفاقية تلمسان (1972): رغم توقيع الاتفاق لترسيم الحدود مع الجزائر، لم يصادق البرلمان المغربي عليها، ما يجعل وضعية الحدود الشرقية غير نهائية من الناحية الدستورية داخل المغرب، وهو ما يُبقي الباب مفتوحًا للمطالب التاريخية.
مبدأ الحدود الموروثة عن الاستعمار: القانون الدولي يعترف بهذا المبدأ، لكن المغرب يرى أن الاستعمار الفرنسي لم يكن محايدًا في رسم الحدود، بل خرق السيادة المغربية بشكل ممنهج، خاصة وأنه لم تكن هناك دولة جزائرية قبل 1962 يمكن اعتبارها طرفًا قانونيًا في الترسيم.
خلاصة: مشروعية تاريخية وقانونية متجذرة
بناءً على المعطيات أعلاه، يتضح أن المطالب المغربية في الصحراء الشرقية ليست مطالبًا ظرفية أو سياسية، بل تستند إلى:
وقائع تاريخية موثقة.
ممارسة سيادية ممتدة.
طعن مستمر في شرعية الحدود الاستعمارية.
غياب المصادقة البرلمانية على التنازل عن هذه الأراضي.
هذا كله يُشكل أرضية قانونية متينة يمكن للمغرب أن يستثمرها في سياق دولي يتزايد فيه الاهتمام بتصحيح آثار الاستعمار.










