لا يسمح أي مواكب لحركة البحث التاريخي بالمغرب إلا أن يقر بحقيقة تعدد الأبواب في هذا البلد، ويشهد على تطورها عبر حقب زمنية مختلفة. غير أن أكثر من باحث عجز عن رسم صورة واضحة ومكتملة المعالم عن هذه الأبواب. فزيادة على كون تلك البحوث عادة ما تفتقد لدراسات مجالية تاريخية فإن المعلومات التي أفرزتها تبقى متقاربة لا تستجيب لمتطلبات البحث التاريخي الصرف لهذه الأبواب التي تختزن ما تبقى من آثار التاريخ وما تحتوي من كتابات ونقوش وزخارف تسعف في توثيق النزر اليسير من مختلف المظاهر الحضارية، وإبراز معالم هوية الأمة المغربية.
لذلك فصعوبة الإلمام بهذا الموضوع تعزى إلى ضآلة البحوث التاريخية وخاصة تلك التي تطرقت في محدوديتها إلى أبواب مكناس.
إلا أنه لا يمكن أن ننكر ما أفادت به بعض الكتب التي أتاحت الإحاطة بظروف بناء هذه الأبواب، واصل تسميتها، كما رسمت صورة تقريبية للهيأة المروفولوجية التي كانت عليها. وما توافر لها من مقومات حضرية والتي كانت مصادر أطرت هذا الموضوع ومنها على سبيل المثال لا الحصر: الروض الهتون في أخبار مكناسة الزيتون لصاحبه ابن أبي زرع، وأتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس لمؤلفه عبد الرحمان بن زيدان، ودليل القصبة الإسماعيلية، دعوة الحق عدد 4 سنة 1964 لمحمد المنوني، بالإضافة إلى دراسة في التاريخ السياسي والعمراني “مكناس من التأسيس إلى مطلع العصر الحديث” لجمال حيمر، ومؤلف آخر للأستاذ مصطفى بنفايدة “مكناس جولة في التاريخ والمعالم”.
جولة عبر أبواب مدينة مكناس، باب منصور العلج: أفادت بعض المصادر المتاحة أن أسوار مدينة مكناس أسست ورممت على امتداد مختلف العصور ابتداء من العصر المرابطي (668، 869) مرورا بالعصر الموحدي والمريني والوطاسي، والسعيد أن حل عهد السلطان المولى إسماعيل (1672-1727م) ويأتي باب منصور العلج في مقدمتها، حيث يعتبر أكبر الأبواب في شمال إفريقيا، ويتميز عن باقي الأبواب بمخططة المبتكر، وسعة بنيانه وعناصره المعمارية، وتنوع مواده، وكثافة ووفرة تزيناته.
راعي المبنى هو السلطان المولى إسماعيل، وأنهى البناء أو جدده بعده حسب بعض الروايات ابنه السلطان مولاي عبد الله سنة 1732م/1144هـ.
وإلى هذا التاريخ تثير قطعة الزليج الخضراء المبنية في واجهة الباب والتي كتبت أرقامها بالحروف الأبجدية (دمشق) الواردة في البيت العاشر من القصيدة، وتعني التاريخ الذي استكمل فيه بناء هذا الباب. وعند تحليل كلمة دمشق بالأرقام فإنها تعطي: حرف الدال = 4، م = 40، شج 1000، ق = 100 ومجموع الكل هو 1144هـ الموافق 1732م.
واعتمادا على روايات مختلفة فإن الذي أشرف على بنائه القائد الجيلالي، أما المعماريون أو الحرفيون، فكان ضمنهم أسير مسيحي أسلم، وأصبحه اسمه “لعلج” ويرجح أن يكون إسبانيا اختار اسم المنصور.
وباب منصور لعلج يقع بساحة الهديم شرق المدينة القديمة، وهو من أعظم أبواب القصبة الإسماعيلية التي كانت تضم أكثر من 20 بابا.
يبلغ ارتفاعه تقريبا حوالي 16 متر، وتتألف الواجهة الخارجية من فتحة مركزية مكونة من عقد نصف دائري متجاور قليلا، يصلى ارتفاعه إلى 8 أمتار. بحصنه برجان مربعان دفاعيان، ينفتحان على رواقين خارجين (مقصورات بلا أعمدة) أحيطا بتراجعين في الحائط أكثر ضيقا، يضمان عمودين عاليين من الرخام الأبيض، يغلب الظن أنهما جلبا من الآثار الروحانية من مدينة وليلي الأثرية. بينما قد يكون أصل تيجانهما المركبة التي ترتكز على قاعدات من الحجر الإيطالي.
زين الباب بزخرفة كثيفة من الزليج والجبس والرخام، وسيراميك فاخر فيروزي اللون، يزداد جماله عند الأصيل، إذ تضفي عليه أشعة الشمس بريقا أخاذا.
يمتد على طول البوابة حروف سوداء لكتابات دينية بديعة، كما زخرفت قسمة الباب بمجموعة من الشرفات المسنته، بينما جاءت الواجهة الداخلية للباب خالية من العناصر الزخرفية، ومكونة من عقد على شكل حدوه فرس منكسر قليلا، ومحاط بمستطيل بسيط.
وقد تفاعل شعر الملحون مع هذا الباب، وأنتج الشعراء في ذلك لوحات فنية غنية بمعطياتها الجمالية. وأبعادها الاستعارية، فتنافس الشعراء في وصف معالمه، وتسابقوا إلى الإشادة بتاريخها الرافل في حلل قشيبة من المجد والتفوق، وهذا عبد العزيز العبدلاوي شاعر الملحون يقول:
بحسن النظر وجمال بناك.
رسام راسمو فلاسفي، دهري، لبيب، ذوقي ماهر يعنات
كتب تاريخ عليه يعطي لك
يا فاهم اللغا “دمشق” فأبجد مخفا
بدهاة القراء.
بهج لحساب ربعين مع الربعة باش تم عداد وقنعات
وظائف هذا الباب:
اضطلع باب منصور بمهام عدة، فقد احتضن محكمة باشا المدينة الذي كان يعقد فيه اجتماعاته لحل الخلافات، يقصده بعد صلاة الجمعة لتناول وجبة الغذاء مع القادة العسكريين. كما كانت تنظم أمامه احتفالات دينية وعسكرية. وكان مخصصا أيضا لاستقبال الوفود الأوروبية الآتية لتحرير أسراها والذين بلغ عددهم إلى حوالي 50 ألف أسير استخدمت في بناء القصور والأبواب.
واليوم أصبح هذا الباب فضاء ثقافيا كمعرض وكرواق للفنون التشكيلية وقبلة لمخرجي الأفرام السينمائية، والمسلسلات التاريخية
وقد أقيم لهذا الباب مجسم كان يجثم إلى جانب قوس النصر بباريس واتخذ منه شعارا لسنة المغرب بفرنسا.
والباب يعد اليوم من المباني التاريخية، مرتب في عداد الآثار بولاية مكناس، ومسجل بظهير 8 أكتوبر1914 ، تحت رقم (ج. ر. رقم 06 في 2 نونبر 1914).