عرف التاريخ الإسلامي بالمغرب عبر عصوره رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه باتباعهم رسول الله (ص)، الاتباع الكامل فكانوا أئمة هدى ونور، وسلكوا طريق النبي المصطفى، وقاموا بنصرة الشرع القويم، والذب عن حياض المسلمين. فأكرمهم الله تعالى أن جعلهم من أوليائه الصالحين وعباده المخلصين. فكان جديرا بجريدة العلم تقديم سير بعض الأولياء، خلال هذا الشهر الكريم مساهمة منها في التعريف بهؤلاء حتى تتمكن الأجيال المتأخرة من دراسة سير عظماء أسلافهم، ولينهجوا على منوالهم. فدراسة مناقب هؤلاء الأعلام تملأ الأجيال روحا نقدية، وأنفاسا طموحة إلى العلا، شريطة أن تكون تلك الدراسة موزونة بميزان الكتاب والسنة. لذلك نقدم هذه السيرة العطرة للولي الصالح سيدي عبد الله الخياط الرفاعي الحسيني، دفين الزاوية الخياطية بجبل زرهون، (بمدشر تالغزة 45 كلم عن مكناس).
الضريح أو الزاوية الخياطية: هو بيت صوفي شهير ينتسب إلى الشيخ عبد الله الخياط، مؤسس هذه الزاوية خلال الربع الأول من القرن العاشر (16م). ويذكر في المساند أن جماعة الخلافنة، الذين كانوا يقيمون بالوجه الموالي لوادي مكس من جبل زرهون وهبوا له أرضا تسمى كدية التراب، مع ما حولها من الأراضي ليؤسس هذه الزاوية، ليجمع فيها المريدين ويطعم فيها الواردين. ثم بعدها أقام بداره الكائنة قرب العين المسماة إلى اليوم “عين الدار”، فداع صيت الزاوية، فاجتمع من حوله الناس من كل حدب وصوب، حتى قيل أن المريدين بلغوا عنده عشرين ألفا، ينقصون ويزيدون أحيانا، ويبقى باستمرار ما يزيد عن ألف شخص من حملة القرآن والطلبة.
والزاوية هي مدرسة دينية، ودار مجانية لإيواء المحتاجين، يشرف عليها مؤسسها سيدي عبد الله الخياط وخدامه، حتى أصبحت زاوية صانعة للاستقرار والعيش الكريم، تعنى بالعلم والعلماء، وتساهم في نشر العلم الشرعي ودراسة القرآن الكريم، وتعاليم الدين الحنيف، ونشر الكتاب، والدعوة إلى الترابط والتآلف بين أبناء الأمة الإسلامية، وتجنب التفرقة والاختلاف، والدعوة إلى الوسطية والاعتدال، واكتساب وبناء الأخلاق الحميدة، وتزكية النفوس.
وقد لعبت دورا سياسيا هذه الزاوية في استقرار البلاد ويظهر ذلك من خلال المساعدات المادية والعينية التي كانت تتلقاها من أمراء الوطاسيين الذين كانوا يساعدونها في إطعام الوافدين والمقيمين، حيث أصبحت أعظم زاوية في السلطنة الوطاسية، تنافس معظم الزوايا في عصرها، حيث تتوفر فيها كل مواصفات المركز العلمي الممتاز، وتكفي السيرة الموسومة بكتاب جواهر السماط في ذكر مناقب سيدي عبد الله الخياط، أنه تخرج على يده 50 شيخا ينتمون لمختلف أصقاع المغرب، انتشروا في كبريات المدن مكناس، فاس، مراكش، أزكار، تادلا، الشاوية، زيز، درعة، فتناسلت فروع هذه الزاوية في مختلف بقاع المغرب.
توارث أحفاده الصلاح والعلم، وشرف النسب في كل من زرهون وفاس، وظلت مصنفات التراجم تعنى بذكر أعيانهم حتى منتصف القرن الرابع عشر (20م) ومازالت زاويته بجبل زرهون قائمة إلى اليوم بمدشر تالغزة (التسمية نسبة إلى تل غزة بفلسطين نظرا لتشابه التضاريس).
وكان الأمير أبو عبد الله محمد بن الشيخ المريني أمر ببناء القبة بعد وفاة سيدي عبد الله وجعل بجوارها مسجدا، والقبة لازالت إلى الآن وهي على أربعة قوائم، وقد تم بناء القبة المذكورة والمسجد بعد وفاته بثلاثة أشهر، ولما انتهى البناء أقام الفقراء موسما عظيما في روضة الشيخ، ولازالت هذه العادة إلى اليوم تنظم كل سنة.
وتحكي المؤلفات أن أصل الخياطيين الرفاعيين الحسنيين انطلق من مكة المكرمة البيت الأول لهؤلاء الشرفاء، ثم تأتي اشبيلية ثاني بيت لهم، حين هاجر إليها السيد حسن رفاعة الهاشمي المكي عام 317هـ، ثم ثالث عاصمة رفاعية خياطية حسنية هي البصرة بالعراق، أما رابع عاصمة بطائح واسط انتقل إليها السلطان أبو الحسن الرفاعي، التي أصبحت ذي شأن عظيم في عهد سيدي أحمد الرفاعي الكبير ابن السلطان علي المكي الحسيني (أبو المحامد) دفين بغداد ابن يحيى المغربي المكي الحسني، نقيب البصرة ودفينها، إلى أن يصل نسبه الشريف إلى سيدنا علي بن أبي طالب، وفاطمة الزهراء ابنة الرسول (ص).
وقد استقر سيدي أحمد الرفاعي حسب ما جاء في كتاب البرهان المؤيد لسيدي أحمد الرفاعي بقرية أم عبيدة بالعراق ومشهده هناك (512/578)، والتي جعلها منار طريقته الرفاعية وقبلة للزوار. وهو الإمام الجامع بين الشريعة والعقيدة. تاج العارفين، ودرة السالكين، الوارث الكامل لجده سيد الأنبياء والمرسلين.
ومن كراماته من نفس المؤلف: قبل اليد الشريفة التي امتدت له من الروضة العطرة عندما زار جده المصطفى (ص) لما حج عام 555هـ.
أما سيد إبراهيم بن عبد الله بن أحمد، حفيد سيدي أحمد الرفاعي هو والد سيدي عبد الله الخياط الرفاعي الحسيني دفين جبل زرهون، كان يعيش أبوه إبراهيم في اليمن في مدينة تغز، وخرج منها متجها نحو مصر سنة 856هـ وهو شاب يرغب في تلقي العلوم الدينية والقرآن والأحاديث، ثم انتقل إبراهيم كذلك إلى السودان بمدينة سنير عام 858هـ ثم انتقل إلى القاهرة ثانية، وهناك التحق ببعض المشاييخ من أجل التحصيل العلمي والديني والزهد والورع، وتزوج بالقاهرة ورزق بثلاثة أولاد وهناك التقى بالشيخ أبي العباس أحمد بن عيسى البرنوصي الفاسي المعروف بزروق، لازمه الشيخ إبراهيم ما يناهز 60 سنة، ثم انتقلا سويا إلى برقة بليبيا، إلى أن أمره زروق بالرحيل مع عائلته إلى قابس ومنها إلى وهران سنة 888هـ/1478م وقد ازداد له عبد الله الخياط الولد الرابع بقابس في العام الموالي سنة 889هـ، وقد توفي إبراهيم بوهران بالجزائر.
أما أولاده الثلاث عمر (أبو حفص) توفي مباشرة بعد وفاة والده، ودفن بجوار ضريحه، والابن سيدي محمد العربي انتقل إلى مازونة، وكان يدرس بوهران وبقي بها إلى أن توفي، ودفن بمكان يسمى بئر المعسكر بالجزائر، وبخصوص الابن الثالث محمد الطيب، تولى زمام الأسرة والعناية بأخيه الأصغر سيدي عبد الله الخياط، والعمل على السير بالركب، وبدأت الرحلة وخرجا معا من وهران في اتجاه المغرب إلى مدينة فاس، بقصد الدراسة، ثم مات محمد الطيب ودفن بباب فتوح بفاس. وكان آنذاك سيدي عبد الله الخياط في سن الاحتلام أي ما بين 15 و17 سنة، ولم يمكث في فاس إلا مدة زمنية قليلة، ومنها توجه إلى مكناسة الزيتونة حيث كان يدرس سيدي عبد الله الخياط مع ابن خالته أبي حفص عمر بن الخطاب دفين جبل زرهون كذلك.
وقد ذكر نسبهما الشريف عبد الرحمان التجاني الغريسي في كتابه: “عقد الجمان النفيس في ذكر الأعيان من أشراف لغريس” أنه لما يذكر الشرفاء المنسوبين للرسول (ص) ذكر سيدي عبد الله الخياط. وكان هو وسيدي عمر الخطاب ابني خالة وكانا في صغرهما يقرآن القرآن على مؤدب واحد في مكتب واحد، ثم انتقل بعد ذلك لاستكمال تعليمه بالحاضرة الوطاسية فاس، التي أدرك بها الطبقة العلمية.
وجاء في كتاب الإتحاف للمرحوم بن زيدان، أنه لقي علماءها ثم تخرج منها، واتصل بالعديد من المشاييخ، ثم رحل إلى زرهون بإذن من شيخه أحمد الملياني، ثم طاف في البلاد ودخل مراكش، ومر بدكالة، وتادلا، ثم استقر بمكناسة الزيتون، وصحب الشيخ محمد بن عيسى الفهدي المختار بن الشيخ الكامل، وكانت بينهما محبة عظيمة، ومودة كبيرة، ثم انتقل إلى جبل زرهون، واشتغل بعبادة الله واشتهر أمره، وطار صيته، وأقبل الناس عليه من كل ناحية حتى كان بزاويته ما ينيف عن ألف من حملة القرآن، وكانت زاويته آهلة بنشر العلم، وبثه في صدور الرجال آناء الليل وأطراف النهار.
وعن التعريف بسيدي عبد الله الخياط الرفاعي الحسني، كتب صاحب جواهر السماط، أنه اعتمد في التعريف به على ما ذكره تلميذه العلامة أبو القاسم بن منصور الغمري في تأليفه، وعلى ما ذكره كذلك وعلى ما رآه مقيدا وبخط العلماء والصالحين أبو الطيب بن يحيى دفين ميسور لشدة اتصاله به.
وباختصار شديد هو سيدي عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم الشريف الرفاعي نسبة إلى رفاعة الملقب بالخياط، ينتهي نسبه إلى الشيخ الكامل القطب الواصل أبي العباس سيدنا أحمد الرفاعي بن السيد أبي الحسن علي بن السيد يحيى بن السيد ثابت إلى أن وصل نسبه إلى علي بن أبي طالب وابن السيدة البتول وفاطمة الزهراء بنت محمد رسول الله (ص).
وعرف به كذلك صاحب “دوحة الناشر في أخبار القرن العاشر” فقال ما نصه: “كان الشيخ سيدي عبد الله الخياط من مشاييخ الصوفية، وأهل التربية النبوية، وكانت له أحوال سنية، وشعائر مرضية، وكانت تظهر عليه كرامات الأولياء، مع سبيل الاستقامة، وله أتباع صلحت أحالهم على يده.
ثم قال أبو القاسم بن منصور ما لفظه: “وكان من أولياء الله الأكابر، وذوي الزهد والمآثر، كان يعطي الطعام ولا أظن أن أحدا كان يعطيه مثله في وقته، وكان شهير الذكر، عظيم البركة، له صيت طويل ومحفل عجيب، يأوي البعيد والقريب، وكانت له زاوية لإطعام الطعام لم تكن في قطره وعصره مثلها، وكان كبير الشأن جليل القدر وظاهر الولاية شهير البركة، وكان قويا في السلوك عظيم الكشف، يخبر الغيبيات والوقائع المستقبلات، وكان موئل لأهل العلوم والدين وموردا للضعفاء والمساكين”.
وكان رضي الله عنه، أبيض اللون، ربعة لطيف الذات، يملأ العيون جمالا، والقلوب جلالا، عالي الهمة، ممتع الجلسة، طيب المؤانسة، ، سديد الرأي، جميل المعاشرة.
وأثنى عليه الشيخ أبو القاسم بن منصور الغمري في قصيدة له ذكر فيها نسبه الشريف وبعض كراماته نقتبس منها هذه الأبيات الشعرية:
فسمي عبد الله فضلا ومنة.
فقد كان يعبد الله مدى الدهر.
ولقب بالخياط من أجل أنه
يخيط يجود كل مهشم بالفقر
هو الرفاعي الأصل قوبسي مولدا.
له نسب بالشرف كالأنجم الزهر
بزرهون دار لديه كريمة
علوم بها تقرأ وذكر بلا حذر.
الزاوية الخياطية وأي دور سياسي؟
وتتردد المصادر في الإفصاح عن حقيقة الدور السياسي الذي لعبته الزاوية الخياطية آنذاك حسب مؤلف معلمة المغرب، فهي تقر بأن الأمراء الوطاسيين كانوا يمدون الزاوية بالمواد الأساسية من غنم وبقر وقمح… إلخ. وأنهم أي الأمراء يخدمون الشيخ سيدي عبد الله الخياط. ويشاورونه في الملمان. وتؤكد ذات المصادر عدم وقوفه في صفهم ضد خصومهم. غير أنه قال يوما في حق الوطاسيين: “أنه طلب من الله ألا يخرج الملك من أيديهم مادام على وجه الأرض”.
وتعرب وفاة الشيخ سيدي عبد الله التي حدثت عصر يوم الاثنين 14 شوال 939هـ/9 مارس 1533م، عن دخول الشيخ في الصراع السياسي الدائر بين الوطاسيين والسعديين، الذين عملوا على تصفية بعض العلماء والصالحين الذين فضلوا نصرة الحق، وهكذا قتل العدد الكبير من شيوخ الزوايا الذين كان لهم دور كبير في تأطير المجتمع، والتأثير عليه، وكان سيدي عبد الله الخياط أول ضحايا يد الغدر والبطش وهو يبلغ من العمر 51 سنة، أفناها في خدمة العباد وفي سبيل وحدة الأمة الإسلامية وتثبيت مقوماتها على أمتن الأسس. ولا أدل على ارتباط مصير الدولة الوطاسية بالزاوية الخياطية من ربط الرواية المتعلقة باغتيال سيدي عبد الله بين بقائه على وجه الأرض كما ورد في دعائه لهم: “ألا يخرج الله الملك من أيديهم مادام على وجه الأرض” وبقاء ملك بني الوطاس. ويذكر أن السلطان أحمد بن محمد البرتغالي (931/955هـ) موافق 1524/1548م، عند وفاة الشيخ عبد الله، بعث ببعض خواصه يقفون على جنازته وعين لهم موضع دفنه ليستقيم له بناء قبة عليه، وقال لهم: “اجعلوا الشيخ في تابوت من خشب، واتركوه على وجه الأرض، ولا تحفروا له قبرا، ثم اجعلوا على ذلك التابوت دربوزا، واجعلوا عليه حائلا آخر، فعلى هذه الحال يبقى على وجه الأرض” وتقول الرواية أن السعديين لما علموا بالأمر تحايلوا على أبناء الشيخ ودفعوهم إلى دفنه وكتمان أمره على السلطان الوطاسي، وتأتي الصدف أن انهارت خلافة الوطاسيين بعد دفن الشيخ، بعد انهزامهم في معركة بوعقبة عام 943هـ/1537م، لكن ما لبث أن عقد صلح بين الوطاسيين والسعديين وكانت الزاوية الخياطية حاضرة في شخص الشيخ عمر الخطاب ابن خالة سيدي عبد الله الخياط، الذي هو أيضا حلف إبان الصلح، “أن لا دخل السعديون فاس مادام على وجه الأرض” ورأى بعضهم أنه كان على بني وطاس ألا يتركوه هو الآخر يدفن في قبر، وأن يرفعوه في تابوت، وكم كانت الزاوية الخياطية بمثابة العصيبة الدينية للدولة الوطاسية.
إذا مات سيدي عبد الله الخياط شهيدا، وخلف 4 أبناء وأحدهم توفي قيد حياته، ثم إبراهيم الملقب بصاحب “سلسلة الذهب” ومحمد وعبد العزيز، وورث مشيخة الزاوية بعده ابنه إبراهيم، وحفيده علي نجل هذا الأخير، والذي توفي أواخر القرن العاشر (16م). وتؤرخ خلافتهما لبوادر تحول في تاريخ الزاوية الخياطية سينتهي بافتراق مشايخها بين زرهون وفاس، ويموت الشيخ علي بفاس وانقطاع خلافة زرهون في عقبه، وانقضاء أجل أعمامه، وقد أعطى ملوك المغرب أهمية خاصة لهؤلاء الشرفاء، وختموا الظهائر بأختامهم الشريفة، وذلك بثبوت نسب الشرفاء بالحجج والبراهين الموثقة، واشتد حب سكان المغرب لهؤلاء الشرفاء أحفاد رسول الله (ص) القادم جدهم من أرض النبوة، وازداد نسل هؤلاء الشرفاء وكثر، وانتشر في جميع أقطار المعمور وبذلك يعد نسل الشريف سيدي عبد الله الخياط من أقوى الأنساب في المغرب، وهم متواجدون اليوم في كل الدول العربية والإسلامية والأوربية والأسيوية، والأمريكية. هوامش: الإتحاف لابن زيدان – جواهر أسباط – الإطلالة الزهية في ذكر صاحب الزاوية الخياطية الرفاعية بزرهون لعبد الواحد الخياطي – البرهان المؤيد لسيدي أحمد الرفاعي – حالة أهل الحقيقة مع الله.