تبقى شاهدة على إبداع وتميز الصانع المغربي الأصيل
السقايات التقليدية بمدينة مكناس كما عرفها بعض المؤرخين ، هي منشآت عمرانية إحسانية ذات طابع وقفي، تقدم للعموم خدمات مجانية تتمثل في توفير الماء الشروب واستعماله في النظافة ، والسقي وتوريد الحيوان.
واعتمد جل السلاطين الذين تعاقبوا على الدولة المغربية ، على عدة أحاديث تدخل في باب من أبواب البر والإحسان والفلاح لإرواء الظمأ، حيث جاء في الحديث النبوي الشريف “أيما مسلم سقى مسلما على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم” رواه أحمد وأبو داوود والترمذي.
والسقاية بكسر السين هي موضع السقي ، ومكان شرب الماء في المواسم حسب شرح فقهي ، ومن كثرة تداول الكلمة لدى المغاربة، أصبحت تنطق بالسقاية بفتح حرف السين، ، أما أهل الشرق فيسمونها ” السبيل .
وللفوز بعمل الخير والبر والإحسان ، تعاطى هؤلاء الحكام لبناء السقايات في بعض الأماكن بمدينة مكناس، لتبقى صدقة جارية عبر الأزمنة والعصور، ويذكرهم بها التاريخ، فأصبحت جزء لا يتجزأ من التراث المغربي الأصيل ، شاهدة على إبداع وتميز الصانع المغربي، وروعة فنون العمارة وعناية جل السلاطين ورجالاتها والمحسنين، عبر بناء هذه المنشآت المائية بداخل المساجد ، أو بجوارها أو ببعض احياء المدينة والأسواق التجارية ، لا زالت بعض ملامحها ماثلة للعيان إلى اليوم ، السقايات معظمها نال نصيبه الوافر من الهدم ، وأخرى بادت معالمها وآثارها ، وأخرى أصابها الخراب في بعض جوانبها وزخرفتها وكتاباتها ، ولم تعد كسابق عهدها تجسد الحضارة والعمران ،.وفي هذا الصدد يقول الدكتور جمال الحيمر( إن بعض الشواهد التاريخية تشير غير ما مرة إلى عوارض النكبات ، التي ألمت بمدينة مكناس ولاحقتها ، والتي بلغت أحيانا إلى أعلى درجات العنف والتخريب ، خاصة إبان تعرضها للحصارات أثناء ظرفيات تحول الحكم أو تعرضها للكوارث الطبيعية ).
ومن الأسباب كذلك التي دعت وشجعت على بناء هذه السقايات ، حسب المؤرخين هو تنوع الموارد المائية ، التي كانت تزخر بها المدينة في تلك الحقب منها بعض الأودية التي تخترق المدينة ، كواد أبي العمائر الذي كان يعرف بواد فلفل وواد بوفكران ، وأيضا توفرها على بعض العيون ، بفضل غنى الفرشة الباطنية .كما تكونت شبكة مائية من قنوات فرعية ، تتغذى من قناة رئيسية تحمل الماء من خارج المدينة ليتم توزيعه على المرافق العمرانية ، وبحسب ذات المصدر، فإن المدينة تتمتع بماء زلال ، يجلب إليها بواسطة قناة من مسافة 3 أميال خارج المدينة ، تتوزع على المساجد والسقايات والحمامات ، كما يوجد ببعض المحاور المائية بعض الأبراج المائية والمَعْدات ( مَعْد باب القزدير) ،والآبار (بئر السرايرية) والسلوقيات كما هو الحال في سالوقيات السلطان مولاي إسماعيل ، وساقية عين قدح والتغزازة ، وسهريج الخميس وسهريج السواني. وتذهب معظم الدراسات إلى أن فكرة تزويد مدينة مكناس بالدورة المائية ، تعود إلى محمد ناصر الموحدي ، الذي عمل على تزويد الحمامات والمساجد بماء عين تاكما ، وعمل على إنشاء السقايات في عدة أماكن داخل المدينة.
وتأسيسا على ما توفر من مادة مصدرية ، لرصد الأطوار الكبرى للتطور التاريخي لهذه السقايات، ومحاولة لتحديد مواقعها ووصف ملامحها الأساسية ، ورصد بعض المقومات الحضرية والفنية ـ التي كانت تتوفر عليها هذه السقايات ، ومحاولة رسم صورة تقريبية للهيأة الموفولوجية ، التي كانت تكتسيها مكناس في العهود المرينية ، والمرابطية ، والموحدية ، والعلوية والتعريف ببعضها.
وحري بالذكر أنه يصعب تحديد العدد الحقيقي للسقايات ، واستنادا إلى كتاب ” الروض الهتون في مكناسة الزيتون ” نقلا عن ابن جابر المكناسي أنه كان بالمدينة 4 مائة سقاية أو أكثر، ويذكر المؤرخ عبدالرحمان بن زيدان أن هذا العدد قد اندثر، ولم يبق منه سوى 70 سقاية) ، و منه من ذهب إلى البقاء على 75 سقاية تقليدية بالمدينة ، ومن أشهرها حسب المؤرخين ، هناك سقاية النجارين، وسقاية براكة ،وسيدي احمد بن خضراء من العصر الموحدي، أما سقاية التوتة وسقاية سبع اعنانب ، باب عيسي والعدول ، وسقاية القيسارية تعود إلى العصر المريني، كما أن الدولة العلوية لها حضور متميز في بناء السقايات منها على سبيل المثال لا الحصر، سقاية الذهب قرب قنطرة دردورة التي اندثرت ، وسقاية باب الرايس وباب المنصور لعلج ، وباب جنان البحراوية وللاخضرة ، وباب الناعورة وقصبة هدراش، وباب الجديد وباب، والهديم وجامع الرياض العنبري، ومشهد سيدي علي منون .كما تم تجديد وترميم في عهدهم الكثير من السقايات ، كسقاية سبع اعنانب وسقاية التوتة وزقاق الحجامين وتيبربرين ، إيمانا بالأهمية البالغة التي يكتسيها هذا المرفق الحيوي، كما قام السلطان مولاي يوسف بن الحسن العلوي بإصلاح وتجديد سقاية مسجد سيدي يحيى بجناح الأمان ، سقاية ضريح أبي الحسن سيدي علي منون بروامزين، وتجديد سقاية جامع الزيتونة وسقاية الحمام الجديد والصباغين والنجارين ،واحمادشة بتيزيمي الصغرى والكبرى ، وسقاية براكة واسقاية حومة جامع السباط والغيمادين داخل الباب الجديد .وكان لهذا السلوك العمراني الحضاري بالغ الأثرللنهوض بالسقايات القديمة المتلاشية ، وبعثها من جديد مما حدا بالمواطنين إلى التنويه بهذا العمل الجليل.