هذا أمر طالما سمعناه ونحن على مقاعد الدراسة ، “ضعوا الأقلام” جانبا كلمات يقولها المعلم وهو يعني في تردادها “انتباه”، وكما هي في الجيش فلها بعد آخر تعني “انتبه” ، تماسك ،انظر إلى الأمام ،وقامتك مستقيمة ،ثم تأتي الكلمات التالية وهي إلى “الأمام سر” وتنطلق الحشود وعلى إيقاع موسيقي موحد.
يبدو هذا المدخل غريبا لتناول موضوع مهم ،لكنه وفي تقديري ينسجم مع المضمون انسجاما منطقيا وسليما. إن لم تكن نجارا فليس بمقدورك أن تصنع كرسيا ، وإن لم تكن طبيبا فإنك لا تستطيع أن تعالج المرضى، ولنأخذ الأخير مثالا ،يراجع المريض ، يسأله، يفحصه، ويبقى المريض مراقبا والوصفة تملأ ،فإما التقدم باتجاه الخلاص من المرض أو استعضاله، وحين الصعود باتجاه التحسن فالمؤشر يعني السلامة الجسدية . ومن هنا سأتناول الموضوع التالي:كل من يعمل في السياسة عليه أن يقرأ، وكل مثقف يقرأ ، وأمتنا قارئة دون ريب تتابع ما ينشر بصحفنا اليومية ، وبمجلاتنا وبمواقعنا الإلكترونية الكثيرة ،فبعض من يكتب فيها ،وهم ليسوا كثيرين أقول لهم ومعي أكثر من سند منطقي ،من لم يتطور باقتدار وعبر سنوات ،لا يمكن أن يكون صحفيا .وإن كانت الاستمرارية في هذا الميدان المتشعب والحيوي تحت غطاء منح فرص للعيش على حساب الابتزاز وتلفيق التهم ،والكتابات غير المبررة والخادشة والنشر خارج أخلاقيات المهنة ، فكفى من هذه الخزعبلات التي تنشر تحت راية صاحبة الجلالة .اتركوا الميدان لمقاتليه ، الذين اقتدروا بحكم التجربة والممارسة الصحفية الحقة ،وكان لهم في خلفياتهم العقائدية أساس لذلك ، وكان لهم من مركزية التوجيه قدرة على الفهم والالتقاط ما هو مفيد لمهنة المتاعب .ولا أعمم هناك ابتعاد عن الأخلاقيات في الممارسة والتطبيق ، ممارسات تشكل عند البعض خرقا سافرا للقوانين والمواثيق الأخلاقية الخاصة بالشرف الإعلامي.
الكل يعلم أن الصحافة اليوم تسير قدما وفي حركة دائبة لم يسبق لها مثيل. ففي يومنا هذا، أصبح الصحفي يعمل بوتائر أسرع ، وتحت ضغط مستمر وفي جوّ معقّد. وفي مخاض هذه المسيرة العسيرة، تعلمت وسائل الإعلام كيف أنّ الثورة الإعلامية، مع كل صفاتها التحررّية، هي في نهاية المطاف سلاح ذو حدين فاحذروه يا أولي الألباب.
إن استخدام التكنواوجيا المتطورة وبنوك بيانات لا حدود لها مفتوحة لملايين القراء، هي مكونات هذا النموذج الإخباري السخيف الذي يرمي إلى هدف بسيط، ،ألا وهو تشجيع «المعلومات الفيروسية» التي توفر نقرات كافية لنشر أكبر ما يمكن من المعلومات. ولا يهم ما إذا كانت المعلومات أخلاقية، موثوقة أو صادقة ؛ المهم هو أن تكون مثيرة، واستفزازية، ومحفزة بما فيه الكفاية لجذب انتباه القراء الذين لا يفرقون بين الخبر الدسم والهزيل، والذين يرددونه على المسامع لأيام دون معرفة كنه الحقيقة .
ومهما كانت درجة رقي الآلات الروبوطية الرقمية، فهي غير قابلة للتجهيز برموز ذات بعد أخلاقي أو معنوي. ويبقى الشخص الحساس هو الوحيد القادر على تناول المسائل الأخلاقية : الصحفيون والمحررون،ذوو الخبرة والكفاءة من حيث التكوين والإلمام بالمعلومات والإحساس بالمسؤولية.
حصلت في الفترة الأخيرة سلسلة من الفضائح، منها الغضب من فرض الرقابة على الصور الشهيرة، والبث المستمر لمشاهد التعذيب والقتل، والشكاوى التي يرفعها المواطنون إثر نشر أخبار تمس بكرامة الشخص أو بعائلته ، وبأطفاله القصر على مواقع العهر الإلكتروني ولازالت دار لقمان على حالها فإلى أين المفر..
أعود وأقول لهؤلاء البعض وأنا منهم ، ومع اعتزازي بهم وبجهدهم ، وأنا لا أقصد أحدا ،افسحوا المجال لغيركم ، وابحثوا عن مجالات قدرتكم وإبداعاتكم ،لتعطوا فيه أكثر فأكثر أما الصحافة فلها من يتعهدها بالكتابات الرزينة وبالخبر اليقين . وأستميح المعلم العذر، وأكرر القول ” ضعوا الأقلام”، قبل أن تتكسر فوق رؤوسكم .