قديما كان الوقت يشبه بالسيف في حدثته “إن لم تقطعه قطعك…” وقورن بأغلى المعادن وأنفسها “الذهب”.. وقيل في حقه أنه من ذهب، وعلى الشخص أن لا يضيعه فيمها لا يعود عليه بالنفع العميم.. وظلت العديد من المجتمعات تولي الوقت الأهمية اللائقة به وحققت بالتالي قفزة اقتصادية وصناعية، وثقافية لا يستهان بها.. وظل الناس يحافظون على أوقاتهم ويستغلونها أجسن استغلال، لا يشعلهم عن عملهم لهو لا زينة ولا فراغ..
فلم تعرف الشوارع عاطلين مهمشين، ولم ترتفع مقاييس الجريمة إلى ما وصلت إليه حاضرا من تفاقم خطير يؤدي يوميا بحياة العديد من الضحايا الأبرياء.. ولم تنتشر المقاهي على الأرصفة وداخل الأحياء بالشكل الذي هي عليه الآن.. ولم يتردد عليها الزبناء لقتل وقتهم عمدا في لعب الورق، ونهش أعراض الناس ومكارمهم، وتدخين السجائر والشيشة والمخدرات والجلوس حول الطاولات بدون شغل ولا “مشغلة” والنظر في النساء، وتقييم قدهن وجمالهن، وتحديد لون وطول شعرهن..
وكل هذه المتاهات تقع داخل فضاءات المقاهي الملوثة بأعقاب السجائر وسحب الدخان – بما فيها الزائفة والمعتمة – والشائعات وتستبيح النميمة والضغينة ضد الأشخاص والجماعات.
ظاهرة المقاهي هذه تقف وراء استشرائها طبعا ظروف وعوامل اجتماعية واقتصادية ومادية عديدة، ولها من العواقب المباشرة والغير المباشرة ما سنحاول الكشف عنها – ولو باختصار شديد – في هذا الحيز الضيق.
توالد المقاهي: الأسباب والدوافع!
أينما وليت وجهك فهناك يافطات كتب عليها بحروف جميلة وبارزة بلغة المتنبي وموليير “مقهى Café” تتراقص أضوائها ليلا بشكل ملفت للانتباه.. تجول شوارع المدينة ودروبها وأحيائها، تتعثر أقدامك في كراسي مصففة على الرصيف المبلط يجلس عليها قوم تحتار في أمر تعلقهم بالمقاهي، ويصعب عليك تحديد نوعية معدن وقتهم: هل هو من ذهب غال أم من أبخس المعادن وأرخصها. تتساءل مع قرارة نفسك عن السر في اكتظاظها بالزبناء، وتحاول أن تجد مبررا مقنعا لهذا الاكتظاظ الذي لا نظير له في المسارح والمراكز الثقافية.. تفهم بعد أن أخذ ورد أن عامل وفرة الوقت وقلة اهتمام الناس به لهما يد قوية في تكاثر هذه المقاهي بشكل مريب وإقبال الناس عليها بكثافة.
فغدا لا يفصل عن مقهى ومقهى إلا مقهى ثالث، لا يميز بينهم إلا اختلاف ألوان الكراسي وأشكالها وألبسة النادلين ،كلها (المقاهي) تعج بالزبناء القابعين حول طاولات ملئت عن آخرها بكؤوس الشاي وفناجين القهوة، وقنينات المشروبات الغازية والمرطبات ونافضات السجائر.. والأدهى أن المقاهي لم يعد عامل ارتيادها يقتصر على الرجال فحسب كما كان الأمر سابقا.. فحتى الجنس اللطيف أخذ يدخل المقاهي دون حجل ولا حشمة ويدخن الشيشة وسجائر “المارلبورو” ويتجاذب أطراف الحديث مع الرجال لا يهم.. وأي حديث يدور بين رواد المقاهي، إذا ما استنبط الطبقة المثقفة التي غالبا ما تناقش قضايا الساعة مثل وباء كورونا المستجد أو المتحور، وكذلك السياسية والاجتماعية كقضية السكن وأزمة الكراء وتضارب آراء الأحزاب ومواقفها للتباينة ونتائج الانتخابات التي لا تعبر عن إرادة العشب، وقضية العاطلين حاملي الشهادات العليا، وتدلي رواتب الموظفين وارتفاع غلاء المعيشة وغيرها من القضايا الشائكة والحساسة التي وقفت الحكومة باستثناء هذه الفئة المثقفة يظل حديث الأغلبية العامية يتمحور حول الدردشة والنميمة نهش أعراض بنات الناس وإلحاق الأذى بسمعة الغير وتمطيط الألسنة وشحذها للزيادة في هول الشائعات المغرضة ونشرها بسرعة صاروخية تسترعي اهتمام الفضوليين والمتطفين..
أما الحديث عن ما حققه فلان من أرباح خيالية – يعلم الله مصدرها – وخسارة فلان آخر في رأسماله الذي ورثه عن أبيه، وزواج ابن فلان بفلانة في ظروف غامضة، وخلاف زوجة حمان بإيعاز من جارته إيمان.. جانب آخر من جوانب فلك الفراغ القاتل الذي يدور فيه المواطنون يوميات دون أي جديد يذكر، ودون عثورهم على أي شغل يقيهم شر النميمة والنفاق والرياء، ويعدهم عن بلوة ارتياد المقاهي ولو لفترة معينة رحمة بقلوبهم وعقولهم التي أضحت تطفح بأفكار وتصرفات اجماعية مقيتة تولدت لديهم عبر محنهم وتجاربهم في هذه الحياة الصعبة.
فكم من رجل أو شاب أو شابة ابتلوا بالتدخين من خلال مجالستهم للبعض في المقاهي، وكم من واحد منهم كان صافي المزاج، نقي الأفكار.. لكن نتيجة بطالته “تلوثت” أفكاره وتغيرت مبادئه وزاد سخطه على المجتمع ونما بأعماقه حقد دفين على من كانوا السبب فيها آلت إليها أوضاعه المادية والمعنوية.
وكم من رواد المقاهي باتوا يرقبون حركة المرور ويحملقون في المارة على الرصيف.
وهذه مجموعة من ماسحي الأحذية تعرض عليك خدمتها. وتلك مجموعة أخرى من بائعي السجائر بالتقسيط نزلت عليهم لعنة صاحب المقهى ففروا بجلدهم قبل أن يظفر فهم. كل هذا الحشد من الزبناء يتكدس يوميا بالمقاهي يستهلك وقت فراغه الطويل هروبا من واقع اجتماعي يئس ساهمت في خلقه أسباب عديدة. “يتبع”