الأستاذ زهير أصدور
استيقظ هارون الرشيد على ضوء الشمس الساطع في عينيه. تحسس الأرض من تحته، فلم يجد الحرير الدمشقي ولا سجاد قصره في بغداد، بل أرضية حجرية ناعمة غريبة. اعتدل في جلسته، وألقى نظرة حوله… فإذا به يرى البحر الأزرق يمتد أمامه بلا نهاية، واليخوت البيضاء تلمع تحت أشعة الشمس.
“ما هذا المكان؟ وأين أنا؟” تمتم لنفسه وهو ينهض مرتبكًا، ينفض عن عباءته الرمل الناعم.
رأى حوله رجالًا ونساءً يرتدون ملابس غريبة، بعضهم يمسك بألواح مضيئة بين يديه، وآخرون يضعون قطعًا صغيرة في آذانهم ويتحدثون كأنهم يخاطبون الجنّ. السيارات تمر مسرعة بلا خيول، وأضواء ملونة تلمع من شرفات المقاهي.
اقترب من رجل مسن في الستين من عمره، بشعر رمادي وملامح وقار، يرتدي قميصًا أنيقًا وسروالًا كلاسيكيًا، ويجلس في مقهى مطل على الميناء يحتسي قهوته بهدوء. كانت عيناه تحملان نظرة رجل رأى الكثير في حياته.
ــ ” السلام عليك أيها الشيخ، أي أرض هذه؟ وأي زمن نحن فيه؟”
رفع الرجل حاجبيه ونظر إليه بتفحص، ثم ابتسم وقال:
ــ وعليك السلام، يا صاح. نحن في طنجة، سنة 2025!”
شعر الرشيد بدوار، وسار متثاقلًا حتى جلس بجانب الرجل الذي قدم له نفسه قائلًا:
ــ “اسمي سمير، وأظنك زائرًا من مكان بعيد… وربما من زمان بعيد أيضًا، أليس كذلك؟”
تأمل هارون الرشيد الرجل، ثم قال بجدية:
ــ ” أنا هارون الرشيد، خليفة المسلمين، ولا أعلم كيف وجدت نفسي هنا!”
نظر إليه سمير بتمعن، ثم أخرج سيجارة وأشعلها بولاعة معدنية، نفث الدخان وقال:
ــ “هذه قصة مثيرة للاهتمام… يبدو أن لدي الكثير لأشرحه لك!”
بدأ سمير يشرح له عن الكهرباء، والسيارات، والهواتف الذكية، وكيف أن هذا الجهاز الصغير يستطيع أن يُريه العالم كله بضغطة زر. أخرج هاتفه وفتح تطبيق يوتيوب، بحث عن “بغداد العباسية”، وعرض لهارون الرشيد مشاهد من قصوره القديمة، ورسمًا تخيليًا لمجده الماضي.
ذُهل الخليفة مما رأى، وقال:
ــ “هذه عين الجنون! كيف تسجنون الصورة والصوت داخل هذا اللوح؟”
ابتسم سمير وقال:
ــ “العلم، يا مولاي، تجاوز حدود الخيال!”
ثم قرر أن يأخذه في جولة عبر شوارع طنجة الحديثة. رأى الخليفة الأسواق، لكنه لم يجد الدراهم والدنانير، بل رأى الناس يمررون بطاقات صغيرة أو يلمسون شاشات أجهزتهم للدفع، فتعجب وقال:
ــ “أين الذهب والفضة؟ أهذا سحر آخر؟”
ضحك سمير وقال:
ــ “المال الآن أرقام في الحسابات، والتجارة تتم بلمسة إصبع!”
وصلوا إلى مول “ابن بطوطة”، ودخلوا قاعة السينما. جلس الرشيد في كرسي مريح، وفجأة امتلأت الشاشة العملاقة بصور وصوت لم يشهد لهما مثيلًا. رأى المعارك تُدار والسفن تطير، فقال مذهولًا:
ــ ” إنها أعاجيب ألف ليلة وليلة تتحقق أمامي!”
في نهاية اليوم، جلسا في مقهى فاخر، وأحضر سمير له كوب قهوة “كابتشينو”. تذوق الخليفة المشروب الكريمي وقال:
ــ ” لولا أني أعلم أن الخمر حرام، لقلت إن هذا شراب سحري!”
ابتسم سمير وقال:
ــ ” إنها مجرد قهوة بالحليب والرغوة، ستعتاد عليها!”
ظل الخليفة يسأل عن أمور عديدة: كيف تحكم البلاد اليوم؟ أين الجيوش؟ هل ما زالت بغداد مركز العالم؟ ولماذا لم يعد الناس يرتدون العباءات والسيوف؟
وفي النهاية، أخذ سمير نفسًا عميقًا وقال لهارون الرشيد:
ــ ” سيدي الخليفة، العالم قد تغير، ولم يعد كما كان… لكن طنجة ما زالت تحتفظ بروحها، فهي ملتقى الحضارات كما كانت دائمًا.”
نظر هارون الرشيد إلى البحر وتأمل الغروب الذهبي، وقال بصوت هادئ:
ــ “يبدو أنني قد جئت في زمن حيث السحر أصبح علمًا، والعجائب صارت حقيقة… ولكن، هل ما زالت القيم كما كانت؟”
نظر إليه سمير وقال:
ــ “هذا هو السؤال الذي نحاول جميعًا الإجابة عنه.”