يعتبر ضريح المولى إدريس الأكبر بمدينة زرهون من الأماكن ذات الأهمية الكبرى في تاريخ المغرب، لكونه يحيل على العهد الأول لتأسيس الدولة المغربية، لذلك اتخذه المغاربة، على مر العصور والأزمان مزارا روحيا للوافدين عليه من مختلف المدن المغربية والدول العربية، حيث أصبح يشكل في المعتقد الديني أنه الوسيط لقضاء الحاجة، وبركة من البركات يتبرك به أهل القرى المجاورة لحل مشاكلهم وأزماتهم الاجتماعية و المادية، وهو ما يرفضه أحفاده، والحقيقة أن رسالة إدريس الأول كانت متمثلة في نشر الدعوة، وتعزيز مكانة الإسلام في بلاد المغرب وإفريقيا، وبناء قلعة من قلع الإسلام التي ظلت شامخة في ظلال العرش المغربي المجيد منذ إدريس الأول إلى المرحوم الحسن الثاني، ووارث سره جلالة الملك محمد السادس المؤيد بالله.
أصبحت مدينة زرهون (24 كلم عن مكناس) تحمل اسم المولى إدريس الأول دفينها سنة 177هـ/793م تلك على وجه الإجمال. والمدينة تقع على قمة جبل الذي هو امتداد لمرتفعات مقدمة جبال الريف، يبلغ طوله 1025 متر، وينخفض في اتجاه الغرب ليصل علوه إلى879 متر. ومباشرة إلى 433 متر عبر قرية بني جناد، و416 متر على مستوى تاقورارت، وعند مدشر القوار يبلغ 701متر، وينخفض في اتجاه زكوطة، ويمتد على مسافة ثلاثين أو أربعين ميلا، وعرضه 10 أميال.
وبين هذه المرتفعات تقع مدينة مولاي إدريس وضريحها الإدريسي، مما جعلها في موقع دفاعي محصن، ولعل ذلك من الأسباب التي جعلت المولى إدريس يتخذها عاصمة لدولته، حيث كانت محصنة طبيعيا من أي غزو محتمل آنذاك، بسبب موقعها الاستراتيجي الهام ، وخصوبة تربتها وعذوبة مياهها، وبها اليوم يقيم الضريح الإدريسي، الذي توليه الملوك العلوية أهمية خاصة ، فأحاطته بعناية بالغة تجلت في بنائه وإبرازه. وأورد ابن زيدان في الأتحاف وغيره من المؤرخين: أن في سنة 1110هـ موافق 1698م أمر السلطان المولى إسماعيل بهدم القبة وإعادة بنائها وتوسيعه، وقام بشراء الأصول المحيطة به من الجهات الأربع، زمن بعيد تضم أمهات الكتب العلمية والدينية، واللغة والمنطق، والسير والتاريخ والتراجم وعلم الفلك والحساب.
و قال العلامة محمد بن جعفر الكتاني في كتابه “الأزهار العاطرة الأنفاس” ما لفظه: “”لما ولى السلطان الأسعد الهمام الأصعد، الأنوه الأرشد، مولانا محمد بن عبد الله بن مولانا إسماعيل جدد بناء هذه القبة، وما هو متصل بها مرة أخرى، وجلب لها المرمر الحسن، مما كان بدار جده بمكناسة الزيتون، وبالغ في الإتقان ذلك، وإحكام عمله، وكان بناؤه له على ما هو عليه مرقوم إلى الآن بالقلم الغباري برتاج دفة باب القبة المذكور سنة 1188هـ، وهو في الأسفل عن يمين الداخل للقبة ولعل من آثار هذا التجديد اللوحتين القائمتين في خدي باب القبة المصنوعين من المرمر الرفيع المنقوش في يمناها:
يا ناظرا بهجتي الله يرعاكا *** أبشر بما ترتجي من خير مولاكا
ومن المتصل بالقبة الساحة التي أمامها المحيطة من جهاتها الأربع بالمباحات الأنيقة المحمولة على 12 عمودا من الرخام، وبوسط الصحن خصة تقذف من جوفها المعين الفرات المزدري باللجين صفاء، ويوجد بالجدار بالجهة الشرقية بهذا البراح، محراب للصلاة يقابله بالجهة الغربية باب بيت القناديل، وبالجهة الشمالية باب دار الزاوية، مبتهج أنيق يقابله باب قبة الضريح الأقدس، ثم كانت هناك دار الضيوف في أسراك وهي الأولى عن يسار الداخل للحرم الإدريسي من باب المعرض الشهير.
ومن إضافات الأمير الفخيم الليث الهصور مولانا اليزيد بن محمد بن عبد الله بن إسماعيل، الزيادة الواقعة في الجهة الغربية من المسجد الإدريسي، يفصل بينها وبين المسجد القديم الصحن، وذلك عام 1204هـ ويدل له ما هو منقوش في خشب بباب المسجد المذكور، ودونك لفظه:
يا سائلا عمن بنى طلعتي *** ومن لدين الله شكلي يشيد
أنشأني المولى الملك الرضى *** محمد المهدي الإمام اليزيد
أما السلطان مولاي سليمان، بنى السقايات التي على يمين ويسار الداخل من الباب المقابل لباب المعرض بالزاوية أسسها عام 1228هـ ويدل على ذلك ما هو منقوش في زليج مثبت بالجدار الذي به السقايات عن يمين الداخل.
تأمل بهجتي وبديع حسني *** وما ألبست من حلل البهاء
تجد عزي ومجدي وارتفاعي *** يفوق الدر في أفق السماء
إمام المغرب إدريس ذي المعالي *** سليل الأكرمين ذوي الوفاء
فقمت بباب روضته بجد *** أظهر زائريه بطيب ماء
بإذن إمامنا الأسمى بنوني *** وتاريخي( تجليت بالسناء)
وكان المغفور له الحسن الثاني قد أدخل عليه تحسينات أخرى، تجلت في المسجد الحسني على يسار الداخل الذي وافق فراغ بنائه يوم الثلاثاء 26 رمضان عام 1388هـ كما هم مثبت برخامة داخل هذا المسجد وبرتاج البابين، بالإضافة إلى دار الضيافة ومرافق أخرى. وتشهد رخامة بالصحن الأول أن الملك محمد السادس أدى صلاة الجمعة بالمسجد المذكور يوم الجمعة 16 مايو 2003 ووقف على إتمام أعمال الترميم والإصلاح التي أمر بها بكل من الضريح الإدريسي والمسجد المجاور له.
من هو المولى إدريس الأكبر؟ هو إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب، من فاطمة بنت الرسول ( ص). وأمه عاتكة بنت الحارث بن خالد بن العاص، هو عم الحسين، وأخو محمد النفس الزكية، أحد أبرز رجالات العلويين الذين ثاروا على العباسيين منذ توليهم الخلافة سنة 132هـ/750م.ففي سنة 169هـ/786م دخل العلويون بزعامة الحسين بن علي المثلث في حرب دارت رحاها بموقع فخ يوم السبت وهو يوم الثورية عام 169هـ كما هو متداول في كتب التاريخ والسير، وقال صاحب مختصر البيان في آل عدنان: أن موقع فخ يبعد عن مكة المكرمة بثلاثة أميال، حيث التقى جيش العباسيين بمجموعة من الثائرين من أحفاد الحسين بن علي، بقيادة عبد الله بن الحسن، ولم تنجح هذه الثورة حيث قضى عليها الخليفة العباسي آنذاك الهادي بن المهدي، وقتل فيها الكثير من العلويين، واستطاع المولى إدريس أن ينجو من القتل ويفر إلى المغرب بتاريخ 172هـ ، رفقة مولاه راشد (ذكر المؤلف في بهجة الأبصار أن صاحبه من المشرق وهو أْوْربي الأصل، كان قد سبق إلى المشرق في أيام موسى بن نصير). قال عنه عبد الله كنون “وقصة لجوء إدريس الأول إلى المغرب لعلها من إيحاء مولاه راشد المغربي الأصل، الذي لم ير لسيره أنجى من أن يبعد في غرب البلاد الإسلامية، حيث يأمن على نفسه، ويحتمل أن يجد المنعة والنصرة هناك، توجها من مكة إلى مصر، ثم إلى إفريقيا فأقاما بالقيروان وتلمسان، ثم ارتحلا إلى طنجة، ومنها إلى وليلي، ونزلا على أميرها الأوْربي إسحاق بن محمد بن عبد الحميد، وذلك غرة ربيع الأول سنة 172هـ (باتفاق ابن غازي) .حيث بايعته قبيلة أوْربة إحدى أبرز القبائل البربرية بالمنطقة، فأخذ يدعو القبائل لنصرة دعوته، ويتصل ببعض رؤساء القبائل الكبرى في المغرب لإسماع كلمته ونشر دعوته، واحتفظت بعض المصادر بوثيقة مهمة نشرها علال الفاسي الذي نقلها عن مخطوط يمني، وهي عبارة عن نداء وجهه إدريس الأول إلى المغاربة آنذاك، ونقتطف منه ما يلي: “وقد خانت جبابرة في الأفق شرقا وغربا، وأظهروا الفساد، وامتلأت الأرض ظلما وجورا، فليس للناس ملجأ ولا لهم عند أعدائهم حسن رجاء، فعسى أن تكونوا معاشر إخواننا من البربر اليد الحاصدة للظلم والجور، وأنصار الكتاب والسنة، القائمين بين حق المظلومين من ذرية النبيين، فكونوا عند الله بمنزلة من جهاد مع المرسلين، ونصر الله مع نبيين، واعلموا معاشر البربر أني أتيتكم وأنا المظلوم الملهوف الطريد الشريد، الخائف الموتور، الذي كثر واتره وقل ناصره، وقتل إخوته وأبوه وجده، وأهلوه، فأجيبوا داعي الله فقد دعاكم إلى الله”.
وهكذا لبت جماعة من القبائل البربرية الدعوة، وقبلت أن تلتف حول المولى إدريس قبائل أخرى مثل زناتة وزواغة وزواوة، وسدراتة وغياثة، ونفزة، وغمارة ومكناسة، إلى أن تتابعت الوفود من الأقاليم الصحراوية. ويحدد صاحب كتاب “روض القرطاس” أبي زرع شروط البيعة إذ يقول: “بايعوه على الإمارة والقيام بأمره وصلواتهم وغزوهم وأحكامهم” ص 20. وكان هذا الحدث ذا أهمية كبرى، لأنه يرمز لقيام الدولة المغربية المستقلة لأول مرة في تاريخ المغرب، حيث استطاع إدريس أن يكون جيشا عرمرما من قبائل زناتة وأوْربة، وصنهاجة، وهوارة، وبدأ في شن حملات كان الهدف منها توحيد البلاد، ونشر الإسلام بين القبائل، وبفضل التفاف المغاربة حوله استطاع أن يبني دولة امتدت أراضيها من بلاد تامسنا على المحيط الأطلسي غربا، إلى أراضي تلمسان بالمغرب الأوسط على حساب الدولة العباسية، فخرج في منتصف رجب 173هـ/ نونبر 789م متوجها نحو تلمسان وأثناء زحفه استولى على مدينة سبتة، ولم يكد يصل تلمسان حتى استسلم حاكمها “محمد بن خرز” وبايع المولى ادريس . هذا النجاح الكاسح أثار مخاوف الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي لاحظ أن فتوحات المولى إدريس أخذت تتجه نحو الشرق، وبات يشكل خطرا على الخلافة العباسية هناك، مما دفع بالرشيد التفكير في التخلص منه بأي وسيلة، ولا فائدة من الدخول في تفاصيل الروايات المتداولة عن اغتيال المولى إدريس، عن طريق التسمم التي وقع فيها بعض الاختلاف حول كيفية وطريقة التسمم على يد رجل ماهر في الكذب والجسوسية سليمان بن جرير الشماخ، الذي قدم إلى المغرب فأتى المولى إدريس وأظهر أنه من المحبين لآل البيت، فمال إليه إدريس وأنزله عنده واعتنى به، فتم غدره عن طريق دس السم بتحريض من هارون الرشيد مما أدى إلى وفاته سنة 177هـ/793م واختلف المؤرخون في تاريخ وفاته فقيل فاتح ربيع الأولن وعليه اقتصر في “الدر النفيس”. وقيل مفتتح ربيع الثاني، وعليه ركز ابن أبي زرع. ودفن بجل زرهون حيث يتواجد ضريحه اليوم الذي سار قبلة سنوية للعديد من الأشراف الأدارسة وغيرهم من أقطار المعمور، تاركا زوجته كنزة حاملا في السابع من الشهر، ثم وضعت حملها فسمي المولود باسم أبيه، ولما بلغ إثنى عشر سنة اشتهر في العلوم، وفرس في الحديث وتعلم ركوب الخيل، ولما عظمت شوكته حط بمدينة فاس عام 192هـ على الصحيح، كما جاء في مختصر البيان للشبخ أبي الرقاشي. وهكذا بدأت مدينة زرهون الصغيرة بحجمها الكبيرة بتاريخها، تكتسب طابعها المميز، كمدينة مقدسة مباركة ببركة أشرافها وجدهم الأكبر. ولن تلين هذه المدينة التي نعمت ببركة المولى إدريس أن تستقطب من حولها العديد من رجالات التصوف وأهل الله، خصوصا خلال العصر الذهبي للتصوف في المغرب، في القرن العاشر الهجري.ولازال السكان يحاولون الحفاظ على طابع مدينتهم الروحي المقدس، وهو طابع يستلهم خصوصياته من الهوية العربية الإسلامية لا يسمح دخول الضريح لغير المسلمين.