الرباط : عبدالفتاح الصادقي
أبرمت المملكة المغربية، خلال العقدين الأخيرين ، مجموعة من اتفاقيات التبادل الحر مع العديد من الدول والتكتلات الاقتصادية، منها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا، وتونس ومصر والأردن في إطار اتفاقية أكادير الرباعية…
والملاحظ أن أي واحدة من هذه الاتفاقيات لم تتعرض للجدل والنقد مثل ما تعرضت له الاتفاقية التي وقعتها المملكة مع الجمهورية التركية، حيث وصل الأمر بمسؤول حكومي مغربي إلى التهديد بتمزيقها لأنها تسببت في أضرار فادحة للاقتصاد الوطني، وهو ما تفهمته حينها المسؤولون الأتراك ، وتم تشكيل لجنة فنية مغربية تركية من أجل تسوية المشكل وإيجاد الحلول الكفيلة بتحقيق التوازن في المبادلات التجارية بين البلدين، وبعد سلسلة من جلسات العمل، وكانت النتيجة مراجعة بنود هذه الاتفاقية، ودخل التعديل حيز التنفيذ، بعدما جرى التوقيع عليه في 24 غشت 2020…
إن تركيز المسؤول الحكومي المغربي على اتفاقية التبادل الحر مع تركيا، وتجاهل الاتفاقيات الأخرى، التي تسببت في عجز أكبر، يطرح علامات استفهام كبرى على هذا المسؤول والدوافع الحقيقية التي تحركه للإدلاء بتصريحات غير ودية داخل المؤسسة التشريعية تجاه دولة صديقة، وهو يعرف جيدا أن المغرب تضرر من جميع الاتفاقيات على حد سواء، حيث بلغ العجز التجاري الذي تسببت به الاتفاقية مع تركيا 1.6 مليار دولار، في حين أن العجز المسجل مع الولايات المتحدة الأمريكية بلغ 2.7 مليار دولار ، ومع والاتحاد الأوروبي بلغ سبعة ملايير يورو.
والواقع أن اتفاقيات التبادل الحر، بشكل عام، فجرت نقاشا في الأوساط السياسية والاقتصادية والإعلامية، اتسم بتضارب في وجهات النظر واختلاف على مستوى توقع الآثار والتداعيات المترتبة عنها. وبخصوص اتفاقية التبادل الحر بين المغرب وتركيا، اعتبر بعض الأصوات أنها يمكن أن توفر ظروف المنافسة العادلة للتجارة بين البلدين، وتقوية علاقة التعاون والتكامل بين الشركات والمقاولات التركية والمغربية، وتوفير فرص جديدة لتطوير التجارة الخارجية لكلا الطرفين، والمساهمة في توسيع التجارة العالمية. ولكن بالمقابل كان هناك من يقول إن هذه الاتفاقية قد تكون مصدرًا للتأثيرات السلبية التي يمكن أن تزيد من تفاقم عجز الميزان التجاري المغربي، إذا لم يتم اعتماد التدابير المواكبة، سواء على المستوى المتغيرات الدولية في المجال التشريعي، أوعلى مستوى تطوير آليات تدبير النسيج المقاولاتي الوطني، من حيث تنويع وتجويد منتجاته، وتقوية تنافسيته داخليا وخارجيا، وبشكل عام تشجيع الاستثمار والنهوض بالاقتصاد الوطني .
ومن المعروف أيضا أن البرلمان المغربي ناقش هذه الاتفاقية في صيغتها الأولى وأخضعها للتشريح، حيث نبه الكثير من النواب إلى الأخطار المحدقة بالاقتصاد الوطني المغربي أمام اقتصاد صاعد يتوفر على العديد من عناصر التنافسية، لكن أصحاب القرار في الحكومة المغربية كانوا يصرون على أهمية هذه الاتفاقية والفرص الكثيرة التي توفرها لفائدة الاقتصاد الوطني بشكل عام والصادرات المغربية بشكل خاص، دون النظر بجدية لمثل هذه التنبيهات…
والحقيقة أن معظم الاتفاقيات التجارية للمغرب كان لها آثار سلبية على الاقتصاد الوطني ، تجلت بشكل واضح، في تفاقم العجز التجاري، وارتفاع واردات هذه البلدان إلى المغرب، مع ارتفاع قيمتها المضافة، مقابل تراجع صادرات المغرب نحوها مع انخفاض قيمتها المضافة ، وانخفاض الاحتياطيات الوطنية من العملة الصعبة …
وإذا كان مبرر المسؤول الحكومي وراء انتقاد اتفاقية التبادل الحر مع تركيا هو الأضرار التي لحقت الاقتصاد الوطني بسببها ، فإن المعطيات المتوفر تؤكد أن معظم الاتفاقيات التي وقعها المغرب حتى الآن كانت لفائدة الأطراف الموقعة الأخرى وأضرت بالاقتصاد المغربي، وهو ما سبق للخبراء الاقتصاديين أن نبهوا إلى خطورته، حيث إن هذه الاتفاقيات تم إبرامها في ظروف ترجح فيها كفة الاقتصادات الأخرى على كفة الاقتصاد المغربي، وبرزت الأثار السلبية مع مرور الوقت بشكل كبير بعد الأزمة المالية العالمية التي انفجرت سنة 2008 ، وأدت اتفاقيات التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وغيرها إلى تفاقم العجز التجاري للمغرب الذي تجاوز 200 مليار درهم خلال سنة 2012 أي ما يعادل 24٪ من الناتج الداخلي الإجمالي المغربي. وكانت نسبة 32٪ من هذا العجز متأتية من المبادلات التجارية المنجزة في إطار اتفاقيات التبادل الحر التي سبق للمغرب ان وقعها.
إن التصريحات المتهورة يمكن أن تكون لها انعكاسات سلبية تماما، وتجعل صورة الاقتصاد الوطني، الذي يعتبر نفسه منفتحا، تهتز أمام شركاء المغرب المستثمرين الأجانب، وفي أوساط المؤسسات المالية الدولية، ولدى المراكز المهتمة بمؤشرات الحرية الاقتصادية وتحرير التجارة وتحسين مناخ الأعمال من طرف المستثمرين الأجانب.
إن الخلل لم يكن في الاتفاقية التبادل الحر بين المغرب وتركيا ولا في الشركات التركية، وإنما في السياسة الاقتصادية المعتمدة في بلادنا، التي تباطأت في تأهيل المؤسسات الاقتصادية والأنشطة الإنتاجية لتستطيع مواكبة التحولات وتحقيق التلاؤم اللازم مع المناخ الاقتصادي الدولي، ووضع المحفزات الضريبية والجمركية وغيرها وجعل المغرب دولة أكثر جاذبية للمستثمرين، مع توجيههم إلى الاستثمار في القطاعات الصناعية الأكثر مردودية وذات القيمة المضافة العالية لتحسين تموقع الاقتصاد المغربي على صعيد التصدير…
ومن حسنات هذه الاتفاقية أنها كشفت عن الأخطاء التي يرتكبها أصحاب القرار في بلادنا وعن الضعف المزمن الذي يعرفه النسيج الاقتصادي الوطني، لقد تبين بالملموس أن النسيج الصناعي المغربي عاجز عن التصدير إلى الخارج، وعاجز عن تلبية حاجات المواطن بالداخل، وعاجز عن منافسة السلعة الأجنبية التي تلج السوق المحلية، بالرغم من تكاليف السحن والنقل والتوزيع التي تحملتها … والحقيقة التي لا غبار عليها هي أن الخلل في العجز الاقتصادي الذاتي وليس في ما يقوم به الطرف الآخر …